فصل: الباب الأول: في نفس اليمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.كتاب عقد الذمة والمهادنة:

والعقود التي تفيد الأمن للكفار ثلاثة: الأمان: وقد تقدم ذكره، والذمة والمهادنة، وهما مقصود الكتاب.

.العقد الأول: عقد الذمة:

.والنظر في أركانه وأحكامه:

.وأركانه:

خمسة:

.الركن الأول: نفس العقد:

وهو التزام تقريرهم في دارنا وحمايتهم والذب عنهم، بشرط بذل الجزية، والاستسلام من جهتهم.
وينبغي أن يعين مقدار الجزية، ويقبلوا ذلك، فإن لم يذكر مقدار الجزية نزلوا على مقدار جزية أهل العنوة، وهي ما قدره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على ما نبين فيما بعد.
وإذا وقع العقد فاسدا فلا نغتالهم، لكن نلحقهم بالمأمن.
ولو دخل كافر دارنا ثم قال: دخلت بأمان، فإن أشبه ما قال صدق، وإن لم يشبه رأى فيه الإمام رأيه، كما في سائر الأسارى، وليس لمن وجده فيه شيء.

.الركن الثاني: العاقد:

وهو الإمام ويجب عليه، إذا بذلوه ورآه مصلحة، إلا أن يخاف غائلتهم. ولو عقده مسلم بغير إذن الإمام لم يصح، ولكن يمنع الاغتيال.

.الركن الثالث: فيمن يعقد له:

وهو كل كافر ذكر بالغ حر قادر على أداء الجزية، يجوز إقراره على دينه ليس بمجنون مغلوب على عقله، ولا بمترهن منقطع في دير.
قال القاضي أبو الوليد: هذا ظاهر مذهب مالك، قال: وقال عنه القاضي أبو الحسن: إنه استثنى القرشي في ذلك.
وقال ابن الجهم: تؤخذ الجزية من كل من دان بغير إسلام، إلا ما أجمع عليه من كفار قريش. وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة.
والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال غيره: إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة، واستثنى ابن وهب مجوس العرب. واستثنى ابن الماجشون من ليس بكتابي.
أما الصبي والعبد والمرأة، فهم أتباع، ولا جيزة عليهم، وكذلك المجنون، ولا تؤخذ ممن ترهب وانقطع في الديرة قبل ضربها عليه.
وإذا دخلت امرأة دارنا من غير أمان أو تبعية استرقت، وكذلك الصبي، والفقير العاجز عن الكسب، يقر مجانا. وقيل: يسترسل وجوبها على الغني والفقير، لأنها ثمن صيانة الدم.
وإذا بلغ الصبي أخذت منه عند بلوغه، ولم ينتظر مرور الحول بعد بلوغه.
ولا تقبل من المرتد، إذ لا يقر الدين الذي انتقل إليه.

.الركن الرابع: في البقاع.

ويقرون في جميع البلاد، إلا في جزيرة العرب، وهي: مكة والمدينة، واليمن في رواية عيسى بن دينار. وروى ابن حبيب أنها من أقصى عدن وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب وفي المشرق، ما بين سرب إلى منقطع السماوة. ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين ولا يقيمون.

.الركن الخامس: في تفصيل مقدار ما يجب عليهم:

وواجباتهم أربعة.
الأول: الجزية، فلو أقر الوالي من غير جزية فقد أخطأ.
ويخير المقر بين الإقامة على الجزية وال رد إلى مأمنه. وأكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق. ولا يزاد على ذلك، فإن كان فيهم الضعيف خفف عنه بقدر ما يراه الإمام.
وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر، ولا يزاد عليه لغني.
وقال القاضي أبو الحسن: لا حد لأقلها، قلاك وقد قيل: أقلها دينار أو عشرة دراهم، وهي عقوبة بدل من القتل، فلو اسلم أو مات بعد سنة، سقطت عنه.
ولو اجتمع عليه جزية سنين، فقال القاضي أبو الوليد: إن كان فر منها أخذت منه للسنين الماضية، وإن كان ذلك لعسر لم تؤخذ منه، ولم يكن في ذمته ما يعجز عنه؛ إذ الفقير لا جزية عليه.
الثاني: الضيافة وأرزاق المسلمين.
وقد كان عمر رضي الله عنه فرض مع الدنانير أرزاق المسلمين مدين من حنطة على كل نفس في الشهر، مع ثلاثة أقساط زيت ممن كان بالشام والجزيرة، وعلى من كان بمصر إردبا من حنطة في كل شهر. قال: ولا أدري كم من الودك والعسل، وعليهم من الكسوة التي كان عمر يكسوها الناس على أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام. وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا كل شهر على كل رجل، مع كسوة معروفة. قال: ولا أري كم قدرها، كان عمرها يكسوها الناس. وأربعة دنانير يسيرة فيما كان عليهم من الطعام والإدام والكسوة والضيافة.
قال مالك: وأرى أن يوضع عنهم اليوم من الضيافة والأرزاق، لما أحدث عليهم من الجور.
الثالثة: الإهانة.
فتؤخذ منهم الجزية على وجه الإهانة والصغار، امتثالا لأمر الله سبحانه.
الرابع: يجوز أن يؤخذ العشر من بضاعة تجار أهل الحرب.
وأما الذمي، فلا يجوز أن يؤخذ من تجارته شيء، إلا أن يتجر في غير أفقه الذي يؤدي فيه الجزية، فيؤخذ منهم العشر كلما دخلوا، ولو مرارا في السنة.
واختلف: هل الواجب عشر ما يدخلون به كالحربيين، وهو رأي ابن حبيب، أو عشر ما يعتاضون عنه، وهو رأي ابن القاسم.
وسبب الخلاف: هل المأخوذ منهم لحق الوصول إلى القطر الثاني أو لحق الانتفاع فيه؟.
ويتخرج على تحقيقه فرعان.
الأول: لو دخلا ببضاعة أو عين، ثم أرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا أو يشتروا، فابن حبيب يوجب عليهم العشر كالحربيين، وابن القاسم لا يوجبه.
الثاني: لو دخلوا بإماء، فابن حبيب يمنعهم من وطئهن، واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهم؛ إذا لا يرى الشركة.
ولو باعوا في بلد، ثم اشتروا فيه، لم يؤخذ منهم إلا عشر واحد، ولو باعوا في أفق، ثم اشتروا في أفق آخر بالثمن، أخذ منهم عشران.
ويخفف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصة، فيؤخذ منهم نصف العشر. وروى ابن نافع أنه يؤخذ منه العشر كاملا، كما لو حملوه إلى غيرهما، أو حلموا غيره إليها، وقال بالأول دون ما روى.
وإذا دخل الحربي بأمان مطلق، أخذ منه العشر، لا يزاد عليه شيء. وتجوز مشارطته على أكثر من ذلك عند عقد الأمان على الدخول.
فروع:
الأول: إذا تجر أهل الذمة بالخمر وما يحرم علينا، فروى ابن نافع أنهم يتركون حتى يبيعوه، فيؤخذ منهم عشر الثمن.
وإن خيف من خيانتهم جعل معهم أمين. قال ابن نافع: وذلك إذا جلبوه إلى أهل الذمة، لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها.
وذكر ابن حبيب في الحربيين إذا نزلوا ومعهم خمر أو خنزير، فالوالي يريق الخمر،
ويقتل الخنزير، ويفيت الجميع. ولا يجوز للإمام إنزالهم على إبقاء ذلك بأيديهم.
الثاني: إذا انتقل ذمي من قطر إلى قرط كمصر والشام، فأوطن الثاني، ثم قدم منه بتجارة إلى الأول، فقال ابن القاسم: لا يؤخذ منه عشر؛ لأنها بلدته التي صالح عليها. وإن رجع إلى الشام الذي أوطنه، أخذ منه العشر. قال أصبغ: ذلك متى تركت جزيته لم تحول، ولم تؤخذ منه حيث انتقل، فإن أخذت منه حيث استوطن، ومحي عنه الأول، صارت كبلده، ولم يؤخذ منه شيء.
الثالث: قال ابن سحنون عن أبيه: إذا اشترى الذمي، فأخذ منه العشر، ثم استحق ما بيده أو رده بعيب، رجع بالعشر.
الرابع: قال أشهب: إذا ثبت أن على الذمي دينا للمسلم، لم يؤخذ منه عشر، ولو ادعاه لم يصدق بمجرد قوله، ولا يسقط بثبوته لذمي.

.النظر الثاني: في حكم عقد الذمة.

وهو يقتضي وجوبا علينا وعليهم، فحكمه علينا وجوب الكف عنهم، وأن نعصمهم بالضمان نفسا أو ومالا، ولا نتعرض لكنائسهم، ولا لخمورهم ولا خنازيرهم ما لم يظهروها، فإن أظهروا الخمر أرقناها عليهم. وإن لم يظهروا، فأراقها مسلم، فقد تعدى، ويجب عليه الضمان. وقيل: لا يجب، ولو غصبها وجب عليها ردها.
ويؤدب من أظهر الخنزير.
ولو باع الأسقف عرصة من الكنيسة أو حائطا، جاز ذلك إن كان البلد صلحا، ولم يجز إن كان عنوة.
وقال أصبغ في بيع شيء من الديارات في الخراج أو مصالح الكنيسة، وذلك حبس عليها. قال: لا يشتريه المسلم، ولا يجوز من ذلك في أحباسهم إلا ما يجوز في أحباس المسلمين.
ولا يحكم حكم المسلمين في منع بيع الكنائس، ولا رده، ولا إنفاذ حبسها، ولا إجارته، ولا الأمر فيه.
ولو ترافعوا إلينا في خصوماتهم واتفقوا على الرضا بحكمنا، فالحاكم مخير في الحكم بينهم أو الترك، ولا يتعين عليه. وقيل: لا يحكم بينهم إلا برضا أساقفتهم مع رضاهم.
فإن لم يتفق الخصمان، لم يحكم بينهما، إلا أن تتعلق الخصومة بمسلم، فيجب الحكم. قال يحيى بن عمر: وكذلك لو كانا مختلفي الملة.
فإن ترافعوا إلينا في التظالم، حكمنا بينهم على كل حال، لأنه من باب الدفع عنهم، ويجب أيضا دفع الكفارة عنهم.
أما حكمه عليهم، فأربعة أمور:
الأول: في الكنائس، فإن كانوا في بلده بناها المسلمون، فلا يمكنون من بناء كنيسة.
وكذلك لو ملكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرا، وليس للإمام أن يقر فيها كنيسة بل يجب نقض كنائسهم بها.
أما إذا فتحت بالصلح على أن يسكنوه بخراج، ورقبة الأبنية للمسلمين، وشرطوا إبقاء كنيسة جاز:
وأما إن افتتحت على أن تكون رقبة البلد لهم، وعليهم خراج، ولا تنقض كنائسهم، فذلك لهم، ثم يمنعون من رمها. قال ابن الماجشون: ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت، إلا أن يكون ذلك شرطا في عهدهم، فيوفى لهم. ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة. ونقل الشيخ أبو عمر: أنهم لا يمنعون من إصلاح ما وهى منها.
وإذا منعوا من إحداث كنيسة فيما بين المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترفع فيكم يهودية ولا نصرانية»، فلو صولحوا على أن يتخذوا الكنائس إن شاءوا، فقال ابن الماجشون؛ لا يجوز هذا الشرط، ويمنعون منه، إلا في بلدهم الذي لا يسكنه المسلمون معهم، فلهم ذلك، وإن لم يشرطوه، قال: وهذا في الصلح. فأما أهل العنوة نفلا يترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت، ثم لا يمكنون من إحداث كنيسة بعد، وإن كانوا معتزلين عن بلاد الإسلام.
ولا يمنع أهل الصلح من إظهار الخمر والناقوس وغبر ذلك داخل كنائسهم.
وليس لهم إظهار شيء من ذلك خارجها، ولا لهم حمل الخمر من قرية إلى قريتهم التي يسكنونها مع المسلمين، ونكسرها إن ظهرنا عليها، وإن قالوا: لا نبيعها من مسلم. وإن أظهروا ناقوسا كسرناه. ومن وجدناه منهم سكرانا أدبناه، وإن أظهروا صلبهم في أعيادهم واستقائهم كسرت عليهم وأدبوا.
ولا يرفعوا أصوات نواقيسهم، بل يضربون لها ضربا خفيفا، لوا يرفعوا أصوات بالقراءة.
في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين.
الثاني: يمنعون من ركوب الخيل والبغال النفيسة، ولا يمنعون من الحمار، ولا يركبون السروج، بل يركبون على الأكف عرضا.
الثالث: يمنعون من جادة الطريق، ويضطرون إلى المضيق، إذا لم يكن الطريق خاليا، ويلزمون الغيار، ولا يشتبهون بالمسلمين في الزي، ويؤدبون على تكر الزنانير، ولا يدخلون المساجد.
وفي الواضحة وكتاب ابن سحنون: كتب عمر بن عبد العزيز أن يختم في رقاب رجال أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، يركبوا على الأكف عرضا.
قال ابن حبيب: وروي عن الني صلى الله عليه وسلم: «لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم بطريق فألجئوهم إلى أضيقها».
وقال عمر: سموهم ولا تكنوهم، وأذلوهم ولا تظلموهم، ولا تبدؤوهم بالسلام. ونهى عمر أن يتخذ منهم كاتب، وقال: قال الله تعالى: {ولا تتخذوا بطانة من دونكم}. ونهى عنه عثمان.
وقال عمر بن عبد العزيز: كان المسلمون إذا افتتحوا البلاد لم يكن لهم علم بأمر الخراج، حتى استعانوا بالعجم، ثم إن المسلمين عرفوا من ذلك ما يحتاجون إليه وكثروا، فلا ينبغي أن يستعملوا في شيء من أمور المسلمين.
وكتب عمر أن يقاموا من أسواقنا، وقاله مالك.
الرابع: الانقياد للحكم.
وإذا زنى بمسلمة، أو سرق مال مسلم حكمنا عليه في ذلك. أما ما لا يتعلق بمسلم، فلا نعرض لهم فيه، لا أن يترافعوا إلينا على التفصيل المتقدم.
وعليهم أيضا كف اللسان.
فإن أظهروا معتقدهم في المسيح أو غير ذلك، مما لا ضرر فيه على مسلم عزرناهم، ولا ينتقض به العهد، وإنما ينتقض بالقتال، ومنع الجزية، والتمرد على الأحكام، وإكراه المسلمة على الزنى.
فإن أسلم لم يقتل، إذ قتله لنقض العهد لا للحد، وكذلك التطلع إلى عورات المسلمين.
أما قطع الطريق والقتل الموجب للقصاص، فحكمهم فيه حكم من فعله من المسلمين.
وإن تعرض أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لغيره من الأنبياء بالسب، وجب عليه القتل، إلا، يسلم. وروي: يوجع أدبا، ويشرد به، فإن رجع عن ذلك قبل منه.
وأم المسلم، فهو إن كذب على رسول الله عزر، وإن كذبه فهو مرتد، وإن سب الله تعالى أو رسوله أو غيره من الأنباء قتل حدا، ولا يسقط القتل عنه بالتوبة. وقيل: حكمه حكم المرتد.

.العقد الثاني: عقد المهادنة:

.والنظر في شروطه وحكمه:

أما:

.الشروط:

فأربعة:

.الأول: أن لا يتولاه إلا الإمام.

.الثاني: أن تكون للمسلمين إليه حاجة:

فإن كانوا مستظهرين على العدو، لم تجز الهدنة، وإن بذل العدو المال؛ لقوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعا إلى السلام وأنتم الأعلون}، قال في كتاب ابن المواز: ولقد طلب الطاغية ذلك إلى عبد الله بن هارون، وبذلوا مائة ألف دينار كل عام، فشاور الفقهاء فقالوا له: إن الثغور اليوم عامرة، فيها أهل البصائر وأكثرهم نازعون من البلدان، فمتى قطع عنهم الجهاد تفرقوا، وخلت الثغور للعدو، والذي يصيب أهل الثغور نهم أكثر من مائة ألف، فصوب ذلك ورجع إلى رأيهم.
وقال ابن الماجشون: إذا كان الإمام على رجاء من فتح حصن، لم ينبغ له أن يصالحهم على مال، وإن كان على إياس منه لضعفه أو لامتناعهم، أو لما يخاف أن يدهمه من العدو فليفعل. وليس يحرم عليه أن يصبر عليهم إن كان ذا قوة.
قال ابن حبيب: ولا بأس أن يصالحوا على غير شيء يؤخذ منهم، وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على غير شيء. والمراعى في ذلك ما يراه الإمام الأصلح للمسلمين.

.الثالث: أن يخلو عن شرط فاسد:

كشرط ترك مسلم في أيديهم، وكذا ولو التزم مالا فهو فاسد، إلا إذا ظهر الخوف، وتعين في دفعه ذلك.

.الرابع: المدة:

ولا تتعين بل هي موكولة إلى اجتهاد الإمام، وما يراه الأصلح في حال عقد الهدنة من الإطالة أو عدمها.
وقال الشيخ أبو عمر: يستحب أن لا تكون مدة الهدنة أكثر من أربعة أشهر، إلا مع العجز.
ثم يجب الوفاء بالمشروط إلى آخر المدة، إلا، يستشعر خيانة، فله أن ينبذ العهد إليهم، وينذرهم.

.النظر الثاني: في حكمه.

وحكمه الوفاء بالمشروط الصحيح، ولا يجوز أن يشترط رد من جاءنا منهم مسلما عليهم، وذلك ممنوع في الرجل، كما هو في المرأة إذا جاءت غلينا مهاجرة مسلمة، فلا تحل ردهما، ولا يصح شرط ذلك.
هل يرد عليهم من أسلم من رهائنهم؟
روى ابن وهب أن مالكا سأله أهل المصيصة، إذ رهنوا منهم سبعة، وارتهنوا من الروم سبعة حتى يفرغ ما بينهم، فأسلم الذين بأيدينا وأبوا الرجوع إلى بلدهم، فقالوا: يردون إليهم.
قال ابن حبيب: قال من لقيت من أصحابه المدنيين: ومعنى ذلك: إن الروم حبسوا من عندهم من المسلمين، فيرد هؤلاء يستنقذ بهم أولئك، فإن رجي خلاص أولئك، ففلا يرد إليهم هؤلاء.
ولو شرط أن يرد إليهم من أسلم، فقال ابن الماجشون وغيره، لا يوفى لهم بذلك، وهذا جهل من فاعله.
وقال سحنون: مالك يرى أن يدر من أسلم من الرسل والرهن.
وقال في المختصر:
إذا ارتهن المسلمون من المشركين رهائن، فأسلموا وأبوا أن يرجعوا، فليردهم إليهم.
وقال سحنون أيضا: لا يردون.
تم بعون الله الجزء الأول من كتابا العقد الجواهر الثمينة.
ويليه الجزء الثاني.
وأوله كتاب قسم الفيء والغنائم.
بسم الله الرحمن الرحيم

.كتاب قسم الفيء والغنائم:

وفيه بابان:

.الباب الأول: في الفيء:

وهو كل مال فاء للمسلمين من الكفار من خمس وجزية أهل العنوة، وأهل الصلح، وخراج أرضهم، وما صولح عليه الحربيون من هدية، وما يؤخذ من تجار الحربيين، وتجار أهل الذمة، وخمس الركاز، وخمس الغنائم.
وكيفية قسمته ما ذكر ابن حبيب أنها السيرة التي مضى عليها أئمة العدل في ذلك، وهي أن يبدأ بسد مخاوف المسلمين، وتثقيف حصونهم، واستعداد آلة الحرب، فإن فضل شيء أعطي قضاتهم وعمالهم، ومن للإسلام فيهم انتفاع، وتبني منه مساجدهم وقناطرهم إليه وما هم محتاجون، ثم يفرق على فقرائهم، فإن فضل شيء ورأى الإمام تفرقته على الأغنياء فرقه، وإن رأى حبسه لنوائب الإسلام فعل. قال: وذلك كبناء مساجد وقناطر وغزو، وفك أسير، وقضاء دين، ومعونة في عقل جراح، وتزويج عازب، وإعانة حاج، وإرزاق من يلي مصالحهم، وتدبير أمورهم.
والتفرقة فيه بقدر الحاجة، لا على الحرمة والسابقة والبلاء في الإسلام. وروي اعتبار ذلك. وروي أن الأمر موكول إلى اجتهاد الإمام، فيقسم على ما يراه من مساواة أو تفضيل، بحسب الفضائل التي ذكرناها.
ويعطي الإمام أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يراه، ولا يتعين لهم خمس ولا غيره، ويوفر سهمهم لأنهم يمنعون من الزكاة.
وإذا بلغ الإمام عن بلد حاجة، نقل من الفيء والخمس إلى ذلك الموضع بقدر الاجتهاد، ولا ينقل مالاً من بلد إلا بعد إزالة حاجته وحاجة أهله، ويشيد حصونه، ويزيد في كراعه وسلاحه، ويقطع منه رزق عمال ذلك البلد وقضائه والمؤذنين، ومن يلي شيئاً من مصالح المسلمين، ثم يخرج عطاء المقاتلة الذين يدونهم من أهل ذلك البلد لجهاد عدوهم، ثم يعطي العيال والذرية وسائر المسلمين على قدر المال، فإن كان فيه سعة، دفع إلى كل ما يحتاج إليه، ويبدأ بالفقراء، فما فضل من جميع ذلك حمله إلى بيت المال يقسمه على من عنده من المسلمين، فيبدأ فيه بمثل ما بدأ في البلد الذي حمل منه، وإن لم يكن فيه ما يعم الفقراء والأغنياء آثر الفقراء كما بدأ الله بهم، فقال تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}.
قال عبد الله بن عبد الحكم في قسم الفيء إذا صار في بيت المال: يبدأ فيعطي الرجال المقاتلة من جميع البلدان، ويعد فيهم من بلغ خمس عشرة سنة، ويحصي ذرية المسلمين فمن بلغ دون السن، ودون المحتلم من ذكر أو أنثى ويحصي النساء، ويعلم ما يحتاج الجميع إليه في عامهم، ويبدأ بالمقاتلة، فيسد بهم الثغور والأطراف وعورات المسلمين، ويفاضل بينهم في العطاء على قدر المغزى ومؤنته، ثم يعطي النساء والذرية والمنفوس لقوام عامهم، ولا يعطي المماليك، وليعط الأعراب وأهل البوادي ممن له قرار أو لا قرار له، كما يعطي النساء والذرية والزمنى، لا كما يعطي المقاتلة لأنهم حشو الإسلام، فيعطون لحرمته، وبقدر المؤونة، وكذلك الزمنى من أهل الحاضرة.
وإنما العطاء للمقاتلة من أهل المدائن ممن تضرب عليهم البعوث.

.الباب الثاني: في قسمة الغنائم:

والغنيمة: كل مال تأخذه الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة، وخمسها مقسوم كخمس الفيء. وأربعة أخماسها للغانمين. ويتطرق إلى الخمس النفل والرضخ والسلب.
أما النفل فهو زيادة مال يخص به أمير الجيش من فعل فعلاً خطيراً، كتقدمه طليعة، أو تهجمه على قلعة، أو من رأى منه زيادة غناء، وحسن بلاء، وهو موكول إلى اجتهاد الإمام.
ومحله الخمس، لا أصل الغنيمة، وقدره ما يقتضيه الرأي بحسب اجتهاد الإمام.
وأما الرضخ، فهو مال تقديره إلى رأي الإمام أيضاً، يصرف إلى العبيد والصبيان والنساء على قول، حيث قلنا: لا يسهم لهم. ومذهب الكتاب: أنه لا يسهم لهم، ولا يرضخ.
ومحله الخمس كالنفل.
ولو حضر الكافر بإذن الإمام وقاتل، ففي الإسهام له ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين أن يستقل المسلمون بأنفسهم، فلا يسهم له، أو لا يستقلوا ويفتقروا إلى معونته، فيسهم له، فإن لم يقاتل، لم يستحق شيئاً. وحكم العبد حكم الذمي.
وفي الصبي المطيق للقتال ثلاثة أقوال أيضاً: الإسهام، ونفيه، والتفرقة بين أن يقاتل فيسهم له، أو لا يقاتل فلا يسهم له.
وأما المرأة فإن لم تقاتل لم تستحق، وإن قاتلت ففي استحقاقها قولان.
وأما السلب، فهو ما يؤخذ مع القتيل من ثيابه وسلاحه، وما شابهه من السلب المعتاد دون ما ينفرد به عظماء المشركين. وقيل: بل يدخل فيه كل ما معه من ذلك وغيره.
وحكم السلب أنه كسائر أموال الغنيمة، لا يستحقه القاتل، إلا أن ينفله الإمام إياه، حيث يرى ذلك مصلحة.
ولا يجوز له أن ينادي به قبل القتال: لئلا يشوش على المقاتلة نياتهم، فإن فعل فقيل: يملكه القاتل بذلك، وقيل: لا يملكه به.
والنداء بذلك يوم حنين، إنما كان بعد فراغ القتال، وجلوس النبي صلى الله عليه وسلم.
أما قسمة الغنيمة ففيها مسائل:
الأولى: إذا ميز الإمام الخمس، قسم الأربعة الأخماس الباقية من الغنيمة على الغانمين.
ويستثني عن ذلك العقار خاصة، فإنه يبقى لمن يأتي من المسلمين ليشترك الكل في منفعته، كما فعل عمر رضي الله عنه. وقيل: يقسم كغيره، وقيل: ذلك موكول إلى اجتهاد إمام الوقت كما تقدم. ولا تؤخر قسمة ما يقسم إلى دار الإسلام.
وسبب استحقاق السهم شهود الوقعة لنصرة المسلمين، فلو شهد آخر الوقعة استحق، ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا، ولو غاب بانهزام فكذلك.
فإن كان قصد التحيز إلى فئة أخرى، فلا يسقط استحقاقه.
واختلف فيمن خرج لشهود الوقعة، فمنعه العذر منه، كمن ضل، ففي ثبوت الإسهام له ونفيه ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث، وهو المشهور، فيثبته إن كان الضلال بعد الإدراب، وينفيه إن كان قبله. وكمن بعثه الأمير من الجيش في أمر من مصلحة الجيش، فشغله ذلك عن شهود الوقعة، فإنه يسهم له. وروي: أنه لا يسهم له.
فأما اشتراط كونه من جنس من يلزمه القتال، بأن يكون مسلماً حراً ذكراً مطبقاًَ للقتال بالبلوغ أو المراهقة، فقد تقدم الخلاف في فقد ذلك، هل يخل بالاستحقاق أم لا؟
وأما فقد العقل، فإن كان مطبقاً، فلا يسهم له إذا خرج كذلك من دار الإسلام، فإن كان ذلك طارئاً عليه في دار الحرب، ففي الإسهام له خلاف.
وإن كان يفيق، فإن كان بحيث يتأتى منه القتال أسهم له، وإلا فلا.
الثانية: إذا وجه الإمام سرية، فغنمت شيئاً، شارك في استحقاقها جيش الإمام، إذا كانت خرجت منه، وإن خرجت من بلد، فلا يستحق أهل البلد معهم شيئاً.
الثالثة: من حضر لا يقصد الجهاد، كالأجير لسياسة الدواب والتاجر وشبههما، من لم يقاتل منهم لم يستحق، وإن قاتل استحق.
وقال أشهب: لا يستحق أحد منهم، وإن قاتل.
وإذا فرعنا على المشهور، فإنه يسقط للأجير من الإجارة بقدر ما اشتغل عن عمله، إذا كان مستغرق المنافع.
الرابعة: يسوى بين الجميع في القسمة إلا الفارس، فإنه يعطى ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وللرجال سهم.
ويعطى لراكب الفرس دون سائر ما يركب، لما فيها من الكر والفر، إلا ما كان من البراذين والهجن، بمثابتها في ذلك، فإنه يسهم لها، وما لم يكن كذلك لم يسهم لهم.
ويسهم للضعيف لأنه يرتجى برؤه، وقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له لأنه لا يمكن القتال عليه الآن فأشبه الكسير ولا يسهم للأعجف إذا كان في حيز ما لا ينتفع به، كما لا يسهم للكسير.
فأما المريض مرضاً خفيفاً مثل الرهيص وما يجري مجراه، مما لا يمنعه المرض عن حصول المنفعة المقصود منه، فيسهم له.
ولو أحضر فرسين لم يعط إلا لفرس واحد، وقال ابن الجهم: يعطي لهما. ورواه سحنون عن ابن وهب: ولا خلاف أنه لا يعطي لما زاد عليهما.
ويعطي الفرس المستعار والمستأجر، وكذا المغصوب، وسهمه لغاصبه، إلا إذا غصبه من غاز ففيه خلاف، هل يكون لصاحبه، أو للغاصب؟
فأما لو أخذه من المغانم، أو من أحد ممن لم يغز ولا حضر في الجيش، لكان سهمه للغاصب. ويستحق السهم للخيل، وإن كانت في السفن ووقعت الغنيمة في البحر، لأنها مستعدة للنزول إلى البر.
الخامسة: ذكر ابن المواز أن الخيار إلى الإمام في أن يقسم أعيان الغنائم أو أثمانها، يفعل من ذلك لم يراه الأصلح. وحكى ابن سحنون عن أبيه: يبيع الإمام ويقسم الأثمان، فإن لم يجد من يشتري قسم الأعيان. واختار القاضي أبو الوليد قسمة الأعيان دون بيع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.كتاب: السبق والرمي:

وفيه بابان:

.الباب الأول: في السبق:

وهو: عقد لازم كالإجارة، ويشترط في السبق ما يشترط في عوض الإجارة، وليس من شرطه استواؤه من الجانبين.
وفيه ثلاثة فصول:

.الفصل الأول: في صوره:

وهي ثلاث:

.(الصورة) الأولى:

أن يجعل الوالي أو غيره مالاً للسابق.

.(الصورة) الثانية:

أن يخرجه أحد المتسابقين.

.(الصورة) الثالثة:

أن يخرج كل واحد منهما شيئاً، فمن سبق منهما أخذهما.

.الفصل الثاني: في أحكام هذه الصور الثلاث:

ولا يختلف في إباحة الأولى.
وأما الثانية فإن كان المخرج لا يعود إليه المخرج بوجه، بل إن سبق أخذه السابق، وإن سبق كان لمن يليه، أو لمن حضر إن لم يكن معهما غيرهما، فذلك جائز أيضاً. قال الأستاذ أبو بكر: وهذا إنما يتصور على قوله: إن مخرج السبق لا يحرز سبقه أبداً، وهو قوله المشهور. فهذا إذا سبق يكون طعمه لمن حضر، سواء شرط ذلك أم لا، ومثال ذلك أن يكون فرسان لا أكثر، فيخرج أحدهما سبقاً. فأما على قوله الثاني، الصحيح أنه إذا شرط أن السبق لمن سبق، من مخرجه أو غيره جاز، على ما رواه ابن وهب عنه، فها هنا لا يكون طعمه لمن حضر، وإنما يكون للسابق.
فلو شرط في هذه الصورة أن يكون طعمة لمن حضر، لم يجز في قول معظم العلماء.
قال: وهكذا يجيء على قول مالك.
وإن كان الشرط أن يرجع السبق إلى مخرجه إن سبق، فرويت الكراهية في ذلك، وأخذ بها ابن القاسم. وروى ابن وهب الجواز، وأخذ به أيضاً أصبغ. قال القاضي أبو محمد: وهو الصحيح عندي.
وأما الصورة الثالثة: فإن لم يكن معهما غيرهما، فلا يجوز قولاً واحداً، وإن كان معهما من لا يأمنان أن يسبقهما، يغنم إن سبق، ولا يغرم إن سبق. فالمشهور عن مالك منع ذلك.
وأجازه سعيد بن المسيب وابن شهاب. قال ابن المواز: وهو الذي نختاره، وهو قياس قول مالك الآخر: إنه يجوز سبقه.

.الفصل الثالث: في شروطه:

وهي إعلام الغاية، وتبيين الموقف، إلا أن يكون لأهل المكان سنة في ذلك، فيستغنى بها. ومعرفة أعيان الخيل، ولا يشترط معرفة جزئها، ولا من يركب عليها من صغير أو كبير، ولا يحمل عليها إلا محتلم، وكره مالك حمل الصبيان عليها.
فرع:
كل ما ذكرنا من أحكام السباق، فهو بين الخيل أو الركاب أو بينهما، وهما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: في «خف أو حافر»، ولا يلحق بهما غيرهما بوجه، إلا أن يكون بغير عوض، فتجوز فيه المسابقة، إذا كان مما ينتفع به في نكاية العدو ونفع المسلمين، فتدخل في ذلك المسابقة بين السفن وبين الطير، إذا كان لإيصال الخبر بسرعة للنفع به. وأما لطلب المغالبة فقمار، من فعل أهل الفسق.
وتجوز المسابقة على الأقدام، وفي رمي الحجارة ويجوز الصراع.
كل ذلك إذا قصد به الانتفاع والارتياض للحرب، جاز بغير عوض في جميعه.

.الباب الثاني: في الرمي:

وهو كالسبق بين الخيل والإبل، فيما يجوز ويكره، وما يختص الرمي به من كونهما يشترطان رشقاً معلوماً، ونوعاً من الإصابة معيناً، من خسق أو إصابة من غير خسق وسبق إلى عدد مخصوص من الإصابة، أو يشترط أن أحدهما لا يحتسب له إلا بما أصاب في الدائرة خاصة. ويحتسب للآخر ما أصاب في الجلد كله، وغير ذلك مما يشبهه، فجميعه صحيح لازم، ويختص بالرمي عن القوس دون غيره.
فرع:
لو عرض للسهم نكبة من بهيمة عرضت، أو انكسر السهم أو القوس، فلا يكون بذلك مسبوقاً.
وأما الفارس يسقط عن فرسه، أو يسقط الفرس فينكسر، فإن كان السباق بين جماعة، خرج هذا عنه، وإن لم يكن إلا هو وقرينه، فحكى محمد بن المواز أن الذي رأى أهل الخيل عليه أن يعدوا الذي بلغ الغاية سابقاً، ثم قال: وما لهذا عندي وجه.
واختار هو أن كل ما كان من قبل الفارس من تضييع السوط، وانقطاع اللجام، وحرن الفرس، فلا يعذر به، وكذلك لو نفر من السرادق، فلم يدخله ودخله الآخر، سبق الممتنع.
قال: وإن كان ذلك من غيره، كما لو نزع سوطه، أو ضرب وجه فرسه عذر به، ولم يكن مسبوقاً.
بسم الله الرحمن الرحيم

.كتاب الأيمان:

وفيه ثلاثة أبواب:

.الباب الأول: في نفس اليمين:

قال القاضي أبو بكر: اليمين عبارة عن ربط العقد بالامتناع والترك، أو بالإقدام على فعل بمعنى معظم حقيقة أو اعتقاداً، لكن يختص إيجاب الكفارة من ذلك بما ربط باسم الله سبحانه، أو بصفة من صفاته النفسية أو المعنوية، دون الصفات الفعلية.
ولا تجب الكفارة في يمين الغموس، إذ الفعل ماض، ولا في اللغو، وهو الحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يتبين له خلافه، وقيل: هو القول: ولا والله، بلى والله والجاري على اللسان من غير قصد. ولا تجب بالمناشدة: وهي أن يقسم غيره عليه، ولا تجب إذا قال عقيبه: إن شاء الله، قاصداً بذلك حل اليمين.
ثم الألفاظ التي يحلف بها قسمان:
أحدهما: تجريد الاسم المحلوف به، كقولك: الله لا فعلت، والآخر: زيادة عليه، وهي ضربان:
متصلة وهي الحروف نحو: والله وبالله وتالله وأيم الله ولعمر الله.
منفصلة وهي الكلمات، نحو: أحلف وأشهد وأقسم، فهذه إن قرنها بالله أو بصفاته نطقاً أو نية كانت أيماناً، وإن أراد بها غير ذلك، أو أعراها من نية، لم تكن أيماناً يلزم بها حكم، ولفظ ماضيها كمستقبلها.
ولو حلف بمخلوق كالنبي والكعبة، أو قال: إن فعل فهو يهودي، أو برئ من الله، فليس بيمين.
ولو قال: بالله أو بالرحمن أو بالخالق أو الرازق، وما لا ينطلق على غير الله، ثم حنث فعليه الكفارة.
فلو قال: أردت بالله، وثقت بالله، ثم ابتدأت لأفعلن، دين. ولو قال: بالجبار أو الرحمن أو الرحيم أو الحق أو العليم أو الحكيم، كانت أيماناً، وكذا قوله: وحق الله، وحرمة الله، وقدرة الله، وعلمه، وكلامه.
وكذلك قوله: وجلال الله، وعظمته، وكبريائه، كلها أيمان.
ولو قال: بالشيء أو الموجود، وأراد به الإله سبحانه وتعالى، كان يميناً.
وكذلك كل ما كان من صفات النفس أو المعنى، ولا تجوز اليمين بصفات الفعل، ولا تجب فيها كفارة، كقوله: وخلق الله، ورزق الله، وشبه ذلك.
فرعان: الأول: إذا حلف بعدة من أسماء الله سبحانه؛ كقوله: والله والسميع والخبير ونحوه، لم تتكرر عليه الكفارة.
وإن جمع في حلفه جملة من الصفات؛ كقوله: وقدرة الله وعزته وجلاله، فذكر عبد الحق أن مقتضى الروايات يقتضي أن ذلك على قولين في تكرر الكفارة عليه بذلك.
وحكى القول بتعدد الكفارات عن الشيخ أبي عمران، وأنه فرق بأن عطف بعض الصفات على بعض لا يصلح إلا بالواو، ويصح أن يقال: والله السميع العليم اللطيف.
الفرع الثاني:
إذا قال: الأيمان تلزمني إن فعلت كذا، ثم فعل، فقال الأستاذ أبو بكر: ليس لمالك ولا لأصحابه فيها قول يؤثر، وإنما تكلم فيها المتأخرون من أهل مذهبه، فأجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه، والعتاق في جميع عبيده، فإن لم يكن له رقيق، فعليه عتق رقبة واحدة، والمشي إلى مكة في الحج، والتصدق بثلث جميع أمواله، وصيام شهرين متتابعين، قال: ثم اختلفوا في فرع، وهو الطلاق الواقع بها هل هو ثلاث أو واحدة؟
والأول: رأى أبي بكر بن عبد الرحمن رجل الأندلسيين.
والثاني: رأي الشيخ أبي عمران، وسائر القرويين. ثم اختار هو أنه لا يلزمه أكثر من ثلاث كفارات على سنة اليمين بالله، وأن هذا اللفظ لا يدخل تحته إلا اليمين بالله تعالى دون جميع ما ذكروا من الطلاق والعتاق وغيره، إلا أن ينوي ذلك، أو يكون العرف جارياً في بلد يحلفون بهذه اليمين، وقد استمر العرف على أن المراد بها الطلاق والعتاق والصدقة والحج، فيلزمه حينئذ جميعها، قال: ولا فرق بين أن يقول: الأيمان تلزمني، أو لازمة لي، أو جميع الأيمان، أو الأيمان كلها تلزمه.
وحكى الشيخ أبو الطاهر أن المذهب لم يختلف في أن جميع الأيمان تلزمه، إن لم تكن له نية في القصر على أحدها، وكان ممن ينوي لأن النية لم تحضره، قال: لكن اختلف الأشياخ: هل يلزمه الطلاق ثلاثاًَ بهذا اللفظ أو إنما تلزمه واحدة؟. ثم حكي عنهم في ذلك ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين أن يكون له مقصد في التعميم، فتلزمه الثلاث، وبين أن لا يكون له مقصد في ذلك، فلا يلزمه إلا واحدة، قال: ولا فرق بين أن يقول: كل الأيمان أو جميع الأيمان أو لا يقول ذلك.
هذا حكم الطلاق، فأما غير ذلك فيلزمه عتق من يملك قبل حنثه والمشي إلى بيت الله تعالى، والصدقة بثلث المال، وكفارة اليمين بالله، وصوم شهرين متتابعين.
ومن اعتاد اليمين بصوم سنة، فإنه يلزمه ذلك. وهكذا يجري في حكم أيمان البيعة.
واختلف فيمن حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد، فقال ابن وهب فيما روى عبد الملك بن الحسن عنه في العتبية: تكون عليه كفارة اليمين بالله، وروي عن ابن القاسم أنه إن لم تكن له نية، فإنه تتعلق به جميع الأيمان، كما تتعلق بيمين البيعة.

.الباب الثاني: في الاستثناء والكفارة:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول: في الاستثناء:

وقد اختلف الأصحاب: هل هو حل اليمن، أو بدل عن الكفارة؟ وهذا قول ابن القاسم، والأول قول ابن الماجشون: قال القاضي أبو بكر: وهو مذهب فقهاء الأمصار، قال: وهو صحيح، لأنه تبين أنه غير عازم على الفعل.
وشرطه: أن يكون متصلاً، ولا يشترط أن يكون قصده مقارناً لبعض حروف اللفظ.
واشترط ابن المواز أن يكون قصد الاستثناء مقارناً ولو لآخر حرف، قال: فلو انقضى آخر يمينه وهو غير قاصد للاستثناء ثم أتبعها الاستثناء من غير صمات ولا نفس، لم ينفه، حتى يبدو له في الاستثناء قبل آخر حرف من يمينه، فيكون له ذلك، إذا لم يكن بين ذلك صمات إلا النفس.
وقال القاضي أبو إسحاق: لا يكون الاستثناء أبداً سبقاً باليمين، إلا وقد أراده صاحبه قبل أن يتم اليمين. فأما إن لم يعزم عليه إلا بعد فراغه، فإنه لابد لذلك العزم من وقت يتخلل بين اليمين والاستثناء، فلا يصح معه حكم النسق، ويبرد حكم اليمين في ذلك الوقت.
وإذا عزم على الاستثناء قبل آخر جزء من أجزاء يمينه، وإن قل، صح، لأنه لو قطع يمينه في هذا الموضع، وسكت عن تمامها، لم تلزمه.
ثم الاستثناء قسمان:
أحدهما: إخراج بعض ما تناوله اللفظ بصيغة إلا، ولا يجزئ فيه القصد عن غير نطق إن قيدت الحالف البينة، وكانت اليمين مما يقضي به، فإن كانت اليمين مما لا يقضي به، أو لم تقيده بينة، ففي الإجراء من غير نطق خلاف منشؤه النظر إلى أنه من باب تخصيص العموم فيجزي بالنية، أو النظر إلى أن له حقيق الاستثناء، فلا يجزي إلا نطقاً. وهذا كما إذا حلف على أشياء: لأفعلها، مثلا واستثنى بعضها، أو حلف بالأيمان تلزمه وحاشى الزوجة، وما أشبه ذلك.
القسم الثاني: بمعنى حل اليمين، مثل الاستثناء بصيغة إن أو بصيغة إلا، أن كما إذا استثنى رأي نفسه أو غيره، واستثنى صفة من صفات الفعل، ولا يجزي ذلك إلا نطقاً؛ كقوله: إلا أن أرى غير ذلك، أو يبدو لي، فيكون الاستثناء في هذا القسم رافعاً لحكم اليمين عن كل ما تناولته وموقفاً لجملتها. وفي القسم الأول إنما رفع الحكم عن بعض ما تناولته اليمين دون سائره.
وقال أبو القاسم بن محرز؛ لا فرق بين الصيغ، وإنما فرق الفقهاء بين الاستثناء والمحاشاة، لاختلاف معانيهما، ثم اختار إن ما كان بابه إيقاف حكم اليمين كلها ورفع حكمها، فلا يصح فيه الاستثناء إلا بالنطق، وما كان بابه رفع الحكم عن بعض ما تناول اليمين، نظر فإن كان من أصل ما حلف عزله في نفسه، وعلق اليمين بما سواه، فذلك له، وهذا الذي يسميه الفقهاء: محاشاة.
وإن كان لم يعزله في أصل عقد يمين، بل علقه يمينه بجميع الأشياء المحلوف عليها، ثم استدرك باستثناء بعضها، فلا ينعقد الاستثناء ها هنا حتى يحرك به لسانه، لأنه إنما يريد حل ما قد انعقد بيمينه وإيقاف حكمه، وذلك ما لا يصح إلا بالنطق. قال: وسواء كان استثناؤه بإلا أو بغيرها من الألفاظ التي تتناول البعض.
فرع:
حيث قلنا: لابد من النطق بالاستثناء، فتحريك شفتيه يجزيه، وإن لم يجهر به.
قال ابن حبيب عن أصبغ وغيره: هذا في غير المستحلف، فإن استحلف فلابد من الجهر.
وقال ابن المواز فيما كان من الأيمان وثيقة في حق، أو شرطاً في نكاح، أو عقد بيع، أو ما يستحلفه أحد عليه، لا تجزيه حركة اللسان، حتى يظهره ويسمع منه.
ولابد في الاستثناء من قصد حل اليمين، ولو قصد التفويض إلى مشيئة الله وامتثال أمره تعالى في قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً * إلا أن يشاء الله}، لم ينفعه استثناؤه.

.الفصل الثاني: في الكفارة:

.والنظر في السبب والكيفية والملتزم:

أما:

.(النظر الأول) السبب:

فهو يمين معقودة، فلا كفارة في الغموس، ولا في اللغو. وإنما توجب اليمين عند الحنث، وهل هو ركن أو شرط؟ فيه خلاف. فائدته جواز تقديمها بعد اليمين على الحنث.
ولا يحرم الحنث باليمين، لكن الأولى أن لا يحنث، إلا أن يكون الخير في الحنث.

.النظر الثاني: في الكيفية:

وهي ثلاثة أنواع:
الأول: عتق رقبة، يشترط فيها ما قدمناه في الصيام.
النوع الثاني: إطعام عشرة أمداد لعشرة مساكين، إن كان بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف إذا كان ذلك في غيرها. فقال ابن القاسم: يجزيه المد بكل مكان، وقال غيره: يخرج الوسط من الشبع.
ثم قال بعضهم: هو رطلان بالبغدادي من الخبز، وشيء من الأدم، وعد ذلك الوسط من الشبع في سائر الأمصار.
وقال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف. وأشهب: بمد وثلث، قال: وإن مداً وثلثاً لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء.
النوع الثالث: كسوة عشرة مساكين، ويكفي في الكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد.
وأما في حق النساء فأقل ما تجزئهن فيه الصلاة، وهو الدرع والخمار، وهكذا حكم الصغار منهن، وقيل: يكسى صغارهن ما يكسى كبارهن قياساً على الطعام، فإن عجز عن جميع ذلك فصوم ثلاثة أيام، ولا يجب التابع فيه، وإن استحب.
فرع:
لو لفق الكفارة من النوعين الأخيرين، فأطعم خمسة مساكين وكسا خمسة، فقال ابن القاسم في الكتاب: لا يجزيه، وهو قول أشهب. قال محمد: وروي عن ابن القاسم أيضاً أنه يجزيه.